التسجيلة
العدد الثاني 01/22/2023
مجلة رقمية دورية تصدر عن الفهرس العربي الموحد
أستاذ الأدب والنقد والبلاغة في جامعة الملك فيصل بالأحساء، كلية الآداب
أستاذ الأدب والنقد والبلاغة في جامعة الملك فيصل بالأحساء، كلية الآداب
تاريخ النشر : 19 ديسمبر، 2022

يعد البحث العلمي بمناهجه وإجراءاته من متطلبات هذا العصر الذي يتصف بغزارة المعلومات في حقول المعرفة المختلفة لدى المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحوث. ويستخدم البحث العلمي في معالجة المشكلات التي تواجه المنظمات والدول التي تدرك مدى أهميته في تحقيق التقدم  الحضاري والثقافي واستدامته.

وفي ظل التطور التقني المتسارع وانتشاره وسهولة التواصل الاجتماعي؛ تزداد الحاجة لإجراء البحوث والدراسات العلمية للحصول على المعرفة الدقيقة المستندة على معلومات وحقائق موثقة، وتفادي المعلومات المغلوطة، والمحافظة على حقوق المؤلف وحماية الملكية الفكرية.

وعلاوة على ما يحققه البحث العلمي من فوائد للمجتمعات الإنسانية فإنه أيضا يشكل أهمية كبيرة للباحث نفسه ويضاف إلى إنجازاته؛ لذا استحدثت مجلة التسجيلة الرقمية في عددها الثاني بابًا يستعرض إحدى الدراسات العلمية غير المنشورة والحصرية للتسجيلة.

وقبل أن نطرح هذه الدراسة التي ناقشت (الأبعاد المعرفية والحضارية للترجمة) وتناولت “جائزة الملك عبد الله  العالميّة للترجمة أنموذجًا”، سنتعرف على معد الدراسة ومقدمها سعادة الأستاذ الدكتور الطاهر بن محمد بن يحيى من خلال عرض جانب من سيرته الذاتية الزاخرة بالكثير من الإسهامات العلمية المتعلقة باللغة العربية والتي تعكس اهتمامه بالترجمة وخدمة اللغة العربية.

 فالأستاذ الدكتور الطاهر بن يحيى حاصل على شهادة دكتوراه الدّولة من كليّة الآداب والفنون والإنـسانيّات في موضوع: “الخطابة العربيّة القديمة، دراسة في أصولها النّظريّة وأبعادها التداولية وأشكالها الحجاجية”. ويعمل أستاذ تعليم عالٍ بكلية  الآداب والإنسانيّات والفنون بجامعة منّوبة، في تونس، وحاليًا هو أستاذ الأدب والنقد والبلاغة في جامعة الملك فيصل بالأحساء بكلية الآداب. وشارك في عضوية عدد من اللجان العلمية والأكاديمية في تونس وخارجها. ولديه إنتاج علمي وفكري غزير من أهمه كتاب بعنوان: “قضايا الأدب والمسرح عند توفيق الحكيم”،  صدر في تونس عن  دار أميّة عام 1995.كما كتب العديد من من المقالات المحكمة المنشورة في مجلّة آداب القيروان، وأجرى الكثير من البحوث والدراسات التي شارك بها في مجموعة من المؤتمرات والندوات والملتقيات الدولية. كما شارك في ترجمة كتاب: “إدغار موران، تعليم الحياة، بيان من أجل تغيير التربية”، الذي صدر عن دار الضفاف في بيروت  2016.

 

مقدمة الدراسة

أصبح من البديهي اليوم أن  تعتبر الترجمة  جسرَ العبور المركزي من مجتمع إلى مجتمع ومن ثقافة إلى ثقافة. وإذا كان هذا النشاط في النّقلِ من لغةٍ إلى أخرى ومن ثقافةٍ إلى ثقافة ضاربًا في القدم، بحكم ما تفرضه المبادلات الاقتصادية والتجارية بين الشعوب المتجاورة[1]، أو بحكم الحاجة إلى تطوير المعارف وتخصيبها بالاطلاع على تجارب الأمم التي قطعت أشواطا في سبيل الحضارة، فإنّه اتّخذ في عصرنا الحديث وعصرنا الراهن على وجه الخصوص، أبعادا كونية يمكن أن ننزّلها منزلة الضروري بالمعنى الخلدوني للكلمة. وهذا التصور الذي نَعرِض، يصدُق في الحقيقة على تاريخنا القديم كما يصدق على تاريخنا الحديث، إن بصفة كلية وإن بصفة جزئية[2].

وإذا كان المستوى الأول من هذا النشاط يحدث “ضرورة” وبطريقة عفوية في أحيان كثيرة، فإنّ المستوى الثاني غيرُ ممكن دون تصوّر محكم ودون برمجةٍ دقيقةٍ ودون مشروعٍ متكاملٍ، ودون أن يتمّ في نطاق مؤسسة ثقافية أو علمية تتجاوز إرادة الأفراد وطموحاتهم. هذا ما جسّدته مؤسسةُ بيت الحكمة في العصر القديم، وهذا ما تجسّده في عصرنا الراهن، مؤسسة “جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة” في المملكة العربية السعودية، كما تجسّده مؤسسة “المركز الوطني للترجمة” في تونس، ثم “المركز القومي للترجمة” في مصر إلى غيرها من المؤسسات التي تضطلع منذ عقدين تقريبا، بأدوار حاسمة في تطوير واقع الثقافة العربية بل في تمكين الجامعات العربية من المراجع الضرورية سواء تعلّق الأمر بالإنسانيات أو العلوم الطبيعية والصحيحة.

ولا نعني من هذه الإشارة أنّ جهود الأفراد خارج نطاق هذه المؤسسات غير مفيدة أو منعدمة النفع، لكن واعتمادا على أمثلة كثيرة، لا تخضع مثل هذه الترجمات إلى مراجعة دقيقة، كما لا يلتزم أصحابها دوما بأحد أهم مبادئ الترجمة والمتمثل في نقل الأفكار الأساسية التي قصد إليها المؤلف الأصلي، دون تأويل أو تصرّف يحوّل الترجمة إلى كتابة جديدة مختلفة عن الأصل [3]. وهذا ما حدث في الزمن القديم مع أهم كتاب في تاريخ الشعرية الغربية، نعني به كتاب “فنّ الشعر” لأرسطو (ت 322 ق م) [4] هذا ما حدث ويحدث مع أمثلة كثيرة في وقتنا الحاضر.

ومن ثمة اهتمامنا في هذه الدراسة بالترجمة في نطاق مؤسسات مختصة رسمية أو غير رسمية، وهي مؤسسات تختلف في توجهاتها وطريقة عملها، فبعضها يتولّى ضبط العناوين وتحديد المجالات عن طريق “مجلس علمي” يضمّ جامعيين وأكادميين مختصّين، كما يتولّى تقييم ما يعرض عليه من اقتراحات ومشاريع للترجمة، وبعضها الآخر يتعقّب ما تمت ترجمته في السنوات الأخيرة وذلك بفتح شبه مناظرة بين “عدد من المترجمين” أو عدد من “الترجمات” هي ما تعبّر عنه جائزة “الملك عبد الله العالمية للترجمة” أو “المنظمة العربية للترجمة” أو “جائزة الشيخ حمد للترجمة” أو “جائزة الشارقة للترجمة” وغيرها. هي ظاهرة جديدة تمثل في رأينا حافزاً مهما من بين الحوافز التي تضمن ديمومة نشاط الترجمة وإشعاعها .

(I) دور الترجمة في تاريخ المعرفة وتطورها:

1- إنّ الوعي بأهمية الترجمة وأدوارها الحاسمة في تطور المعارف الفلسفية والمنطقية والعلمية وغيرها مسألة قديمة قدم المعرفة ذاتها. ولعلّ الجاحظ (ت 255 هـ) كان من أبرز المفكرين القدامى الذين أوْلوا هذه القضية اهتماما واسعا ومركزّا في كتابيه الشهيرين “البيان والتبيين”[5] و”الحيوان” على وجه الخصوص. وفيه عالج جملة من القضايا المهمة، منها صعوبة ترجمة الشعر بالنظر إلى ما يختص به الشعر من خصائص إيقاعية وتخييلية يصعب الحفاظ عليها إن نحن ترجمناه ونقلناه من لغة إلى أخرى[6]. ومنها الشروط التي وجب أن تتوفر في “الترجمان”،  كأن “يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس الترجمة” ، وكأنْ يكون “أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون سواء وغاية”[7].

ولا شك أن الجاحظ كان يعني بحديثه عن الترجمة، ترجمة المكتوب لا الترجمة الشفاهية التي تقتضيها بعض الوضعيات بين الأفراد والجماعات في عصر تعدّدت فيه الأعراق وتداخلت فيه الألسن من فارسية وهندية وسريانية وغيرها. لهذا السبب تعرّض لموضوع الترجمة في سياق الحديث عن الكتاب وعن الكتابة بديلا عن المشافهة التي كانت وسيلة العرب في نقل المآثر والتواريخ والأحداث إلى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة[8].  غير أنّها طريقة في حفظ المعرفة كثيرا ما يصيبها النسيان والتلف والتحوير والتغيير مما جعل ظهور الكتابة واعتمادها وسيلة رئيسية في حفظ المعارف ونقلها وإنتاجها حدثا حضاريا غيّر وجه الثقافة العربية وجعلها من أبرز الثقافات في العصر الوسيط. ومن أجل ذلك جعل الترجمة الوسيلة المثلى لنقل المعارف وجعل الكتابة  إحدى اهم وسائل تطويرها كما جعل ذلك حلقات متّصلة “من أمّة إلى أمّة ومن قرن إلى قرن،ومن لسان إلى لسان، حتّى أن انتهت إلينا، وكنّا آخر من ورثها ونظر فيها”[9]. وفي حديث الجاحظ تصوّرٌ كونيّ واضحٌ  للمعرفة يتجاوز بمقتضاه حدود الثقافات المحليّة. ومن ثمة  يتحدث عن ضرب من التراكم  في بناء المعرفة وتطوّرِها يُذكِّر بفكرة “التقدم” شبه الحتمي كما شاعت في القرن التاسع عشر في ارتباط بالفلسفة المادية والطبيعية [10]، تقدمٌ يحكمه منطق التراكم المطّرد ،وهو يقول في ذلك: “ويجب أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنّا  قد وجدنا من العبرة أكثر ممّا وجدوا،
كما أنّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر ممّا وجدنا”[11].

لقد بلغ الجاحظ في موضوع نقلِ المعارف وترجمتها وتداولها وضرورة تطورها مبلغا من العمق والتعميم بل التجريد ما جعله يرسم شبه معادلة تقضي بأنّه لا تطوّر للمعارف إن ظلّت حبيسة إطارٍ جغرافي أو ديني أو ثقافي أو لغويّ مغلق، لا يتواصل مع الأخر ولا يتبادل مع الغير منطق التّأثّر والتّأثير. لذلك هو يفترض: “ولو لجأنا إلى قدر قوّتنا ومبلغ خواطرنا،ومنتهى تجاربنا لما تُدركه حواسّنا وتشاهده نفوسنا، لقلّت المعرفة وسقطت الهمّة وارتفعت العزيمة وعاد الرأي عقيما والخاطر فاسدا ولكلّ الحدُّ وفسد العقل”[12].

2- وبالطبع لم يكن الجاحظ ليعالج معالجة “شبه نظرية” موضوعَ الترجمة وموضوعَ الكتابة لو لم تكن هناك أسباب عميقة تتعلق بتكوينه الفلسفي والكلامي والأدبي و”الأنثربولوجي”، وتتعلق أيضا بمعاصرته لعصرٍ كان البداية الفعلية لانفتاح الثقافة العربية على غيرها من الثقافات والثقافة اليونانية على وجه التخصيص. ومن يقرأ مصنفات الجاحظ يعي تنوع الجسور بين الثقافة العربية وغيرها من الثقافات المحيطة والمجاورة: يونانية وفارسية وهندية وتركية وغيرها. ومن يطلع  على كتاب “الحيوان” لأبي عثمان وهو الكتاب الذي أحال فيه على أرسطو في 62 موضعا[13]، ومن ينظر في رسائل الكندي (ت 252هـ)[14]  يتأكد أنّ فعل الترجمة بدأ يثمر في أرض الفلسفة العربية وفي أرض الثقافة العربية في شتى مناحيها. ذلك أنّ أمثال الجاحظ والكندي في القرن الثالث للهجرة وأمثال الفارابي (ت 339هـ) وابن سينا (ت 427هـ) وابن رشد (ت 595هـ) في القرن الرابع وما بعده لم يكونوا مجرّد شراحٍ لمصنفات المعلم الأول، بل كانوا فضلا عن ذلك مفكرين وفلاسفة ومتكلمين استقلوا بأنساقهم الفكرية أحيانا، واستقلوا بأطروحاتهم وبطريقة تناولهم لبعض المسائل، وكان لهم الفضل فوق كلّ ذلك في إيضاح ما غَمُض من نصوص اليونان وشرحه وبيان كيفية الاستفادة منه.

ومنذ ترجمة يوحنا بن البطريق (ت 200هـ) كتاب “الحيوان” لأرسطو قبل القرن الثالث ثم ترجمة  كتاب “النفس” ومصنفات أخرى كثيرة في صناعة الخطابة وفن الشعر وكتاب الجدل والمقولات وعلم المنطق عموما، تطوّرت الثقافة العربية تطورا مذهلا بل أصبحت تتربع على عرش المعرفة في العصور القديمة، لأنّها لم تكتف بالترجمة بل جعلت من الترجمة إحدى وسائل تطوير أدوات المعرفة تفكيرا وتحريرا وتعليما.

3- ما أشبه اليوم بالبارحة. أجل نحن اليوم في حاجة إلى الترجمة أكثر مما كان أسلافنا في حاجة إليها. ذلك أنّ حَدَث الترجمة في تاريخنا القديم وافق طورا كانت فيه الحضارة العربية الإسلامية وكانت فيه الدولة العباسية من القوة العسكرية والاقتصادية ما وفّر الأسباب لتصبح  العواصم الثقافية العربية نقطة استقطاب لعلوم الاخرين ولعلماء الآخرين في الطب والفلسفة والمنطق والهندسة إلخ، وما حوّل “العروبة” لغةً وحضارةً، إلى نقطة جذب وفضاء اندماجٍ لعرقيّات كثيرة فارسية وتركية ورومية وغيرها . وهذا مغزى ذلك الفصل المهم في مقدمة ابن خلدون والذي جاء فيه: “فصل في أنّ حملة العلم في الإسلام أكثرهم الأعاجم”[15].

تغيّر وضع عالمنا العربي والإسلامي في العصر الحديث لأسباب كثيرة أتى على تعدادها وتحليلها الكثيرون، ولم تعد الثقافة العربية بفعل ذلك مركز إشعاع وإنتاج للمعرفة، بل تحوّلت مند القرن التاسع عشر  تقريبا إمّا إلى ثقافة “اجترار” تكتفي بتقديس الماضي وتقريض مآثر القدامى، أو إلى ثقافة “انبهار” تكتفي بتمجيد الآخر الغربي واستنساخه، والمغلوب مولع بتقليد الغالب بعبارة  ابن خلدون الشهيرة[16]. ومع ذلك مثلت صدمة الحداثة منذ حملة نابليون بونابارت على مصر سنة 1798 وما تلاها من احتكاك حقيقي بأروبا، إمّا بحكم الاستعمار أو بحكم البعثات العلمية نحو أروبا، قادحا للاستفادة ممّا حققته من تطور غير مسبوق في التاريخ على جميع الأصعدة العلمية والفلسفية والسياسية والاقتصادية . وبعض مؤلفات المصلحين العرب في القرن التاسع عشر كـ”تخليص الإبريز في تلخيص باريس” للطهطاري (ت 1873م) أو كتاب خير الدين التونسي (ت 1890م) “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” من المؤلفات التي تدعو صراحة للاقتباس عن “الأفرنجة” بترجمة علومهم وتاريخهم وفلسفتهم، بل كان أصحابها من مزدوجي اللسان وساهموا في تأسيس مدارس لتعلم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والإيطالية[17].

وبالطبع كلما ازدادت المعارف وتطورت ازدادت الحاجة إلى الترجمة وتطورت وسائلها وتطور نسقها[18]. وما نشهده في عالمنا اليوم من ثورة بل ثورات تكنولوجية في وسائل التواصل وكيفية تخزين المعارف وسبل نقلها وطرق تعليمها وتلقينها، يحتّم أن تكون الترجمة حجر الزاوية في مواكبة العصر وفي اللّحاق بركب الحضارة الحديثة.

قد يبدو ذلك أمرا بديهيا إذا تعلق الأمر بالعلوم الصحيحة من رياضيات وفيزياء وكيمياء وعلوم طبيعية باعتبارها علوما “غربية” بدرجة أساسية. وبالطبع لا يمكن استيعاب هذه العلوم إلا بإتقان إحدى اللغات العلميّة الحيّة كالأنجليزية والفرنسية، أو بترجمة أدبيّاتها ومصطلحاتها وأجهزتها المفهومية[19]. غير أنّ الأمر يتجاوز هذه الحقول المعرفية والتكنولوجية التي أشرنا إليها، ليشمل كلّ ما له علاقة بالعلوم الإنسانية أوّلا وبعلوم اللسان والبلاغة والتداولية وتحليل الخطاب ونظريات الحجاج والمدارس النقدية بمختلف توجهاتها ومناهجها ثانيا. ومن يمارس مهنة التعليم العالي ومن نذر حياته للبحث، يعي الكمّ الهائل من الصعوبات التي يواجهها المختصّون في عمليّة  ترجمة عدد كبير من المصطلحات الفرنسية أو الأنجليزية وغيرهما من اللغات الأروبية. ومثلما كانت الترجمة في العصور القديمة الوسيلة الرئيسية لتخصيب الثقافة العربية بالمفاهيم الفلسفية والمنطقية وحتى البلاغية ذات الأصول اليونانية، ثم المساهمة في تطويرها كما حصل مع  متى بن يونس (ت 328هـ) ويحي بن عدي (ت 364هـ) والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، فلا يمكن تطوير مناهجنا اليوم واستيعاب ما تقترحه العلوم الإنسانية والعلوم اللسانية والبلاغية الجديدة من أدوات للتحليل والدراسة إلا بترجمة مصادرها ومراجعها التأسيسية في مختلف اللغات الأروبية والغربية.

غير أنّ حركة الترجمة في عالمنا العربي وفي مؤسساتنا التعليمة والجامعية تشكو قصورا كبيرا مقارنة بما ينبغي أن تكون عليه. وكثيرة هي الدراسات والبيانات التي أمعنت في المقارنات الكمية بين ما يترجمه العرب اليوم وما تترجمه أمم أخرى وثقافات أخرى[20].

قد نَعِز ضعف الوتيرة التي عليها حركة الترجمة في مختلف بلادنا العربية إلى أنّ أغلبها ما زال يعاني مشاكل التنمية ونشر التعليم على نطاق واسع والقضاء أو التقليص من نسب الأمية التي ما زالت مرتفعة في الكثير من الأقطار. لكن ذلك لا يفسر أو لا يبرّر البطء الشديد الذي تتّسم به حركة الترجمة العربية سواء تعلق الأمر بالعلوم الصحيحة أو العلوم الإنسانية . والسبب الرئيسي الذي يفسر هذا الوضع يتمثل في أنّ الترجمة ارتبطت في غالب الأحيان بجهود فردية كان لها الفضل دون شكّ في تجسير المسافة بين وضع بعض العلوم في تربتها الأصلية ووضعها في ثقافتنا العربية كعلم الاجتماع وعلم النفس والأنتروبولوجيا والنقد الأدبي وغيرها. لكن لا يمكن أن تثمر جهود الأفراد وأن تشعّ إلا إذا ما ائتلفت مع جهودٍ أخرى في نطاق البلد نفسه أو في نطاق العالم العربي برمته، وما لم تصبح الترجمة أحد الاختصاصات الضرورية في الجامعات العربية  لا في أقسام الآداب واللسانيات فحسب بل في أقسام علمية أخرى إن لزم الامر. ولعلّ الحاجة إلى ترجمة مصطلحات العلوم الصحيحة التي تتكاثر كلّ سنة بشكل مذهل أكثر ضرورة من ترجمة مصطلحات العلوم الأخرى. ذلك أنّ مواكبة ما يستجد في حقول الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الطبيعة يقتضي ضرورة ترجمة أجهزتها المفهومية الجديدة التي تتطور وتتغير باستمرار. والترجمة من هذا المنطلق هي إحدى أهم الأدوات لتجسير المسافة بين ما وصل إليه الغرب وما نصبو إليه وهو اللحاق بركب الحضارة الحديثة.

4- أخيرا لا يمكن تناول موضوع الترجمة في وقتنا الراهن دون الوقوف عند أحد الإنجازات الكبرى التي يسّرت عملية نقل المعارف من لغة إلى أخرى في أسرع زمن وفي أيسر كلفة، نعني بذلك ما اصبح يسمى بالترجمة الآليّة. ومزايا هذا النوع من الترجمة لا يحتاج إلى برهنة، فبفضلها يتمكن القارئ العربي مثلا من التفاعل مع تعليقات مكتوبة بالعبرية أو الصينية أو التركية فضلا عن اللغات العالمية الأخرى في وسائل التواصل الاجتماعي أو على شبكة الإنترنات بصورة عامة. وبفضل هذا النوع من الترجمة نتمكن من ترجمة بعض الوثائق الإدارية وإن بصورة تقريبية وترجمة بعض النصوص القصيرة سياسية وإعلامية واقتصادية وغيرها.

غير أنّه وجب التمييز بين هذا النوع من الترجمة الذي يتعلّق غالبا بمقاطع لسانية محدودة وبمستوى من التعبير لا يتّسم بالغموض ولا يقوم على المجاز وهو المستوى الذي يُمكن للترجمة الآلية أن تحافظ على معانيه ودلالاته، وبين  مستوى ثان من الترجمة يتعلق إما بنصوص علمية وبمصطلحات ومفاهيم نظرية دقيقة أو بنصوص نقدية وأدبية تستخدم لغة مخصوصة وطرائق في التعبير “مُغَيّرة” عن مجرى العادة بعبارة القدامى. ولبيان الفرق بين هذين المستويين من الترجمة نقف عند المثالين التاليين المُترجَمين من العربية إلى الفرنسية:

المثال الأول: [الطقسُ اليومَ جميلٌ وسنذهب إلى البحر]. والترجمة الآلية اقترحت الجملة الفرنسية التالية:

  • Aujourd’hui il fait beau et nous allons à la mer.

وهي ترجمة دقيقة في المستوى التركيبي والنحوي وفي المستوى المعجمي  والدلالي.

المثال الثاني: [لقد أثْلَجَتْ ابنتي صدري]. والترجمة  الآلية اقترحت الجملة الفرنسية التالية:

  • Ma fille a gelé ma poitrine.

وهي ترجمة خاطئة كل الخطأ بل هي جملة  لو أردنا أن نعيد ترجمتها إلى العربية لكانت كالتالي:[لقد جمّدت ابنتي صدري]. وهو تعبير يبتعد عن الجملة العربية الأولى والتي تعني: سرتني ابنتي، وأفرحتني أو أدخلت السرور على قلبي وهو ما يستوجب الترجمة الفرنسية التالية:

  • Ma fille m’a réchauffé le cœur .

ويمكن أن ننوّع الأمثلة من الإنجليزية إلى العربية. فالجملة التالية:

  • It rains cats and dogs

إذا ما اقتصرنا على الترجمة الآلية فسنترجمها على النحو التالي:

[تمطر القطط والكلاب]. وهي ترجمة لا معنى لها، والصواب أن نترجمها: [إنّها تمطر بغزارة].

وانطلاقا من هذه الأمثلة نطرح إشكاليّة الترجمة الحرفيّة التي تعتمدها تطبيقات الترجمةالآليّة. هي ترجمة لا يمكن للباحث والأكاديمي أن يعتمد عليها بشكل مطلق وذلك بالنظر إلى جملة إكراهات لسانية وثقافية نختزلها في النقاط التالية:

أولاً: ضرورة التمييز في النصوص الأصلية بين المعاني الحرفية والمعاني المجازية . وكم من صورة لو اقتصرنا في نقلها على المعنى الحرفي لَمَا نقلنا القصد منها ولابتعدنا كثيرا عمّا أراد المتكلم أن يعبّر عنه. ومن الأمثة القرآنية الجيدة تلك الاستعارة التي توقّف عندها الكثير من البلاغيين نعني بها ما ورد في الآية الرابعة من سورة مريم: [واشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْبًا]. فلو اقتصرنا على الترجمة الآلية لنقلناها بالصيغة التالية:

  • Et la tête a pris feu .

وهي ترجمة  خاطئة لأنّها اقتصرت على نقل الألفاظ  كما هي في تتاليها دون الوعي بالبعد المجازي فيها والدّال على الكبر الشديد. ومن أفضل الترجمات في رأينا ترجمة الباكستاني محمد حميد الله (ت 2002م)، وجاء فيها:

  • Et ma tête s’est enflammée de cheveux blancs.

وبقطع النظر عن الأمثلة التي استشهدنا بها لا بدّ من الإلحاح على أنّ بعض الصور والاستعارات التي تتخلّل خطاباتنا لا يمكن التعويل فيها على الترجمة الحرفية والآلية. ونخصّ الكنايات في هذا السياق بالذكر، ذلك أنّ الكنايات ترتبط في الغالب بالعادات وبالرموز الثقافية الخاصة بكل ثقافة. فكنايات مثل “كثير رماد القدر” أو “نؤوم الضحى” أو “واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ” أ و “طويل النجاد رفيع العماد” لا يمكن ترجمتها إلا بالاعتماد على ما تدل عليه من معنى كليّ ومن دلالة رمزية تتجاوز الدلالةالحرفية.

ثانياً: ضرورة التّحري في نقل بعض المصطلحات من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وضرورة التخصص العلمي في بعض الحقول والميادين. ومن الأمثلة التي شدّت انتباهنا مثالان اثنان: الأول ورد في ترجمة الباحث منذر عياشي في ترجمته لكتاب بيير جيرو “الأسلوبية”[21]، ويتعلّق بالمستوى الخامس من مستويات صناعة الخطابة عند الإغريق واللاتين وهو الذي يطلق عليه باللاتينية: [Actio] أو [Action] بالفرنسية، والمقصود من ذلك الإلقاء أي إلقاء الخطبة في سياق شفاهي. والإلقاء مصطلح قد لا يفي بالغرض لأنّ الخطيب وهو يلقي خطابه يستخدم ما يسميه سيسرون (ت 43 ق م = Ciceron) الروماني ببلاغة الجسد[22]. ومن ثمّة اقترح رولان بارط في مقاله الشهير ” الخطابة القديمة” ترجمة أكثر دقة ورشاقة وهي: “المَسْرحةThéâtralisation “[23]. مع ذلك كان مصطلح الإلقاء هو المصطلح الشائع والمستخدم في الدراسات الخطبية المختصة. غير أنّ مترجم كتاب جيرو ” الأسلوبية” يختار ترجمة أخرى تدل دلالة مؤكدة على أنّه لم يفهم المقصود من مصطلح [Action]. صحيح أنّ من معاني [Action] :الفعل، لكنه أحد المعاني وليس المعنى الوحيد. وحين نعود إلى المعجم الفرنسي لاروس نفسه، نجد عشرة معان مختلفة. أولها: الفعل، والثاني التجسيد العملي لنشاط فرد أو مجموعة، ….. وعاشرُها نمط من التعبير الفني يقوم على توظيف حركات الجسد.

ولا شكّ أنّ المترجم كان واعيا بأنّ هذا المصطلح يرتبط بالقدرة على استخدام ما سميناه ببلاغة الجسد. لكن جعل كلمة “فعل” معادلاً  لكلمة “Actio” أو “Action” خطأ اصطلاحي جسيم[24].

أما المثال الثاني فيتعلق بدراسةٍ لعبد السلام المسدي أحد الروّاد العرب الذين كتبوا عن الأسلوبية منذ نهاية السّبعينات من القرن الماضي[25]. ورغم الدّقة التي تميّزت بها لغة صاحب الكتاب بصورة عامّة، فإنّه أخفق في ترجمة  بعض المصطلحات الأساسيّة في البلاغة الغربية واليونانية على وجه التحديد. فنقل مصطلح [rhétorique] إلى مصطلح بلاغة، ثم نقل الجملة الفرنسية التالية:

  • [La dialectique est L’art de discourir]

 إلى: “موضوع الجدل صناعة الخطابة”، ابتعاد كلّي عن المقصود بالمصطلحات الفرنسية ذات الأصل اللاتيني واليوناني.

أما مصطلح [rhétorique] فتعني في العصور القديمة صناعة الخطابة لا البلاغة باعتبارها علما كليّا يبحث في قوانين إنتاج الخطاب البليغ وتقبله. وأما صناعة الجدل فتختلف اختلافا كبيرا عن صناعة الخطابة سواء تعلق الأمر بموضوعها أو وسائل حجاجها. وهذا مغزى تفريق الفارابي بين الصناعتين بالقول: إنّ صناعة الخطابة صناعة جزئية عملية، وأما صناعة الجدل فصناعة كليّة نظريّة[26]. وعدم التمييز بين هذا وذاك، مردّه في رأينا عدم الاختصاص أوّلا، وعدم تطور الدراسات النقدية فيما يخص صناعة الخطابة ونظريات الحجاج على وجه التحديد ثانيا.

أخيراً إنّ الترجمة في الأصل معاناة حقيقية حتى حين يكون المترجم مُتقنا للّغات التي ينقل عنها. والسّبب في ذلك يعود بالأساس إلى عاملين اثنين أساسيين كما أسلفنا: ما يستخدم في النصوص التي ننقل عنها من مصطلحات قد لا نجد لها في اللغة العربية ما يعبر عنها تعبيرا دقيقا. وهو ما تجسده أمثلة كثيرة من قبيل الاختلاف في ترجمة مصطلح [Pragmatique][27] أو [Cognition][28] أو [Rhétorique][29] أو غيرها. أمّا العامل الثاني فيتعلّق بما يتخلّل اللغات، كلّ على حسب طرائق التعبير والمرجعيّة الثقافية والأنتروبولوجية، من صور مجازية وأبعاد رمزيّة لا تعبّر عنها البنى الصريحة للغة بقدر ما تعبر عنها البنى العميقة للتفكير.

(II) مؤسسة جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله العالمية للترجمة: الاستراتجية والأهداف

إنّ بعض القضايا التي تناولناها في القسم الأول من هذه الدراسة على درجة كبيرة من الأهمية فيما نقدر، سواء تعلق الأمر بتاريخ الترجمة عند العرب أو ببعض الأفكار الرّائدة التي عبّر عنها الجاحظ والذي عاصر أحد أخصب عصور الترجمة في التاريخ القديم، أو ببعض الصعوبات التي تحُول دون الحصول على ترجمات دقيقة إمّا نتيجة الاعتماد المفرط على الوسائل التكنولوجية الجديدة او نتيجة انعدام التخصّص والوقوع في أخطاء فادحة في بعض الأحيان، أو نتيجة سوء تقدير وعدم دراية بالخلفيات الثقافية لكل لغة وطرائق تعبيرها.

وقد سبق أن اعتبرنا جهد الترجمة خارج نطاق المؤسّسات الجماعية والرّسمية بالخصوص، جهدا مفيدا دون أدنى شك في جوانب كثيرة، لكنّه جهد تتحّكم فيه إكراهات متنوعة مادية وشخصية، ومن ثمة فهو مهدّد دوما بالانقطاع وانعدام التواصل. ومن ثمّة ركّزنا في مقدمة هذا العمل على فكرة مَأْسَسَة نشاط الترجمة سواء تعلق الأمر ببعث أقسام خاصة بالترجمة في كليات الآداب واللغات، أو ببعث كليات ومعاهد عليا تختصّ بتكوين المترجمين في اتجاهين رئيسيين: الأول يتعلق بالترجمة من اللغات الأجنبية المهيمنة على الساحة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية كالإنجليزية والفرنسية والصينيّة أيضا. أمّا الاتجاه الثاني فيتعلق بالترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى تعريفا بماضينا الزاهر وتعريفا ببعض إبداعنا وإضافاتنا، إن لم تكن في العلوم الصلبة ففي الحقول الثقافية والأدبية المتنوعة .

وفي تقديرنا، تضطلع “جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة” بدور كبير في تجسيد هذه الأهداف والعمل على تحقيقها. صحيح أنّها مؤسسة لا تعلّم مبادئ الترجمة بطريقة مباشرة ولا تلقي دروسا في تقنيات الترجمة، لكنّها مؤسسة رائدة  في تقويم أعمال الترجمة والتعريف بها على النطاق العربي والمحلي وعلى النطاق العالمي. وفيما يلي من فقرات، سنسعى إلى التعريف باستراتجية هذه المؤسسة وأهدافها والأدوار المهمة التي تضطلع بها.

1- تؤكد مختلف الأدبيات الخاصة بـ”جائزة الملك عبد الله العالمية للترجمة” أّنّ التفكير في بعثها ثم تأسيسها وتيسير السّبل لعملها كان نتيجة إعداد طويل أشرفت عليه نخبة من الأكاديميين والمثقفين والمسؤولين  بلورةً لبرامجها وضبطا لأهدافها، كما كان نتيجة التقاء مثمرٍ بين الأكاديمي أو المعرفي من جهة والرسمي والسياسي من جهة ثانية. ومما يتردّد في مقالات كثيرة من أنّ التفكير في بعث هذه المؤسسة انطلق منذ بداية 2006م وربّما قبل ذلك في نطاق نشاط مكتبة الملك عبد العزيز العامة، والّذي وافق مجلسُ إدارتها على إنشاء “جائزة خادم الحرمين الشريفين  الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة” وذلك بتاريخ 31 أكتوبر 2006م. أمّا الموافقة الرسمية على هذا المشروع فلقد أعلن عنها في مؤتمر صحفي بتاريخ 3 مارس 2007م على هامش أنشطة معرض الرياض الدولي للكتاب.

2- وبالنظر فيما يمكن أن نسميه فروعا للجائزة أو محاور معرفية مختلفة تهتم بها، ميّز القائمون على الجائزة بين مجالين رئيسيين: مجال العلوم الإنسانية، ومجال العلوم الطبيعية، وهما المجالان الأساسيان تقريبا للمعرفة المعاصرة كما يذهب إلى ذلك إدغار موران والذي يميّز بين ما يسميه “بالإنسانيات” وما يسميه “بالعلوم الصحيحة”[30] .

وفي نطاق هذين المجالين الجامعين، تمّ التمييز بين ما يترجم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وما يترجم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى. ومن ثمّة تفرعت “الجائزة الكبرى” في مستوى أوّلى إلى:

  1. جائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية.
  2. جائزة الترجمة في العلوم الطبيعية  من اللغة العربية إل اللغات الأخرى.
  3. جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إل اللغة العربية.
  4. جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى.

كما تفرّعت الجائزة في مستوى ثان إلى :

  1. جائزة الترجمة لجهود المؤسسات والهيئات.
  2. جائزة الترجمة لجهود الأفراد.

ويحقّق هذا التفريع الثاني هدفين مهمّين: أوّلا التّأكيد على أنّ فعل الترجمة بقطع النظر عن جهد الأفراد ونشاطهم هو فعل مؤسسة قبل كل شيء أي فعلٌ جماعيٌّ يخضع للتخطيط والبرمجة حسب حاجات الأنظمة التعليمية والأهداف الثقافية والحضارية.

أمّا الهدف الثاني فيتمثّل في الاعتراف لبعض الأفراد ممّن كرّسوا جزءا من حياتهم العلمية لترجمة عيون المصنفات الغربية في الأدب والنقد والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة والأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان والتكنولوجيا وغيرها، دون أن يدركوا ما أصبح يواكب نشاط الترجمة منذ سنوات قليلة من تشجيع مادي واعتباري.

ولعلّ أهمّ ما نستنتجه من هذا التفريع لحقول المعرفة التي تهتم بها هذه المؤسسة، ومن هذا التنويع للجهات المعنية بها، هو الشموليّة التي لا تستثني أي حقل أو مجال أو جهة والتي تستوعب كل الفاعلين في ميدان الترجمة.

3- ما سبق أن تحدثنا في شأنه يخصّ الأهداف المعلنة والبرامج المسَطّرة التي قرّرت مؤسسة “جائزة الملك عبد الله العالمية للترجمة” أن تلتزم بها وتعمل وفق مقتضياتها. وبعد مرور عشر دورات كاملة من نشاط هذه المؤسسة يمكننا أن نقيّم نشاطها وعملها وما حققته من نتائج وإشعاع عربي وعالمي.

أولاً: من الضروري التأكيد على أنّ الهيئة المديرة للجائزة حدّدت جملة من المقاييس الموضوعية في عملية تقييم الأعمال المترجمة، ما تعلق منها باللغة وسلامتها ودقتها أو ما تعلق بأمانتها في نقل أفكار النصوص الأصلية .

ثانياً: تراوحت أعداد الأعمال المترجمة التي تفد على المؤسسة بين 186 عملا في الدورة الأولى سنة 2006م و 96م عملا في الدورة الرابعة سنة 2010م. غير أنّ مجموع المشاركات في الدورات العشر (بين 2006م و 2021م) بلغ 1414 عملا مشاركا، بما يعطينا معدلا عاما في حدود 141 عملا في كل دورة.  

وهي أرقام  إذا ما قسناها بوتيرة نشاط الترجمة في عالمنا العربي اعتبرناها طيبة ومهمة، من دون أن نتغافل عن ميلاد مؤسسات أخرى شبيهة في أهدافها وفي تحفيز المترجمين على المشاركة في مسابقاتها ومواعيد التنافس على نيل الجائزة[31].

لكنّ الملاحظة الأهم من كلّ هذه الاعتبارات الكميّة، تغطية ما يَرِد على الهيئة المديرة للجائزة لأغلب المجالات التي خططت لها واعتبرتها ممثلة لوضع الترجمة في ثقافتنا العربية المعاصرة.

وتحتل ترجمة الأعمال في مجال العلوم الإنسانية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية مكان الصدارة سواء تعلق الأمر بعلوم اللسان وفلسفة اللغة وتحليل الخطاب أو بما تعلق بالفلسفة المعاصرة ونظريات الثقافة.

فمن بين 51 كتابا نال أصحابها جوائز نجد 32 كتابا في العلوم الإنسانية: منها 17 كتابا من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية و15 كتابا من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى. وهي نتيجة  قد لا يتوقعها المرء نظرا إلى أنّ الريادة في العلوم الإنسانية بالمعنى الحديث للكلمة إنّما هي للغربيين بصورة عامة. لكن ما يفسّر هذه النسبة المتقاربة ثراء تراثنا اللاهوتي القديم وثراء تراثنا الأنتروبولوجي والفلسفي والتاريخي والمنهجي. وإلاّ كيف نفسّر ترجمة “رحلة ابن بطوطة”[32] وترجمة “مقدمة ان خلدون”[33] وترجمة “فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” [34] ثم ترجمة “مقاصد الشريعة” لمحمد  الطاهر بن عاشور[35] إلى لغات أوربية مختلفة.

على أنّ الذي شدّنا في قائمة الكتب التي فاز أصحابها بالجائزة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية أمران اثنان: أوّلا الإقدام على ترجمة  عيون المصادر المنهجية في شتى العلوم الإنسانية بالمعنى الواسع لهذه العلوم، ما تعلّق منها باللسانيات وفلسفة اللغة وتحليل الخطاب وما تعلق منها بعلم النفس وعلم الاجتماع.

أما الأمر الثاني فالنفع العميم لبعض المصادر التي يحتاج إليها الطالب والباحث في الإعلام واللسانيات وتحليل الخطاب. ونقف عند معجمين اثنين تُرجِما إلى اللغة العربية من اللغة الفرنسية. أما المعجم الأول فهو “معجم تحليل الخطاب”، لشارودو ومنغنو، وهو معجم لا غنى عنه في تذليل الصعاب لكل باحث يحتاج إلى الوقوف عن المفاهيم الأاساسية لهذا لحقل المعرفي الجديد الذي لم يمرّ على ولادته وتطوره إلا خمسة عقود تقريبا أي مند سبعينات القرن الماضي. وهو حقل “تحليل الخطاب” ثم “التحليل النقدي للخطاب”. وأهل الاختصاص واعون بأنّ الكثير من مفاهيمه “رجراجة” واسعة الدلالة متعددة التعريف بدءا بمصطلحات كالنص والخطاب وانتهاء “بمفهوم السياق” و”أنواع السياق” ومفهوم “النصية” و”الاتساق” و”الانسجام” إلى غيرها من المفاهيم. لهذا السبب يقول دومنيك منغنو “إنّ تحليل الخطاب هو في غاية عدم الاستقرار  لوجوده في ملتقى العلوم الإنسانية”[36] وهو المفهوم “المحيّر” كما يقول في موضع آخر.

بالطبع لا يمكن أن نغمط “المركز الوطني للترجمة” في تونس حقه وفضله في برمجة هذا المعجم ضمن أولوياته وتكليف علَمين من أعلام اللغة والبلاغة وهما الأستاذان عبد القادر المهيري والأستاذ حمادي صمود لترجمته ونقله إلى اللغة العربية[37]. لكن يصدق على الكتاب ما يصدق على السلع أو المنتجات الاقتصادية أحيانا. فلا يكفي إنتاجها أو صنعها بل لا بدّ من التعريف بها وإشهارها حتى يقبل الناس عليها. ويكفي أن يفوز الكتاب المترجم بالجائزة حتى يصبح قبلة القراء  المتخصّصين وهو ما تؤكده الإحالات التي تعد بالآلاف كلما تعلق الأمر بالبحث في مسائل تحليل الخطاب إن نظريا وإن تطبيقيا.

وما ذكرناه بالنسبة إلى هذا المعجم يصدق على معجم آخر يتكامل مع الأول وهو “القاموس الموسوعي للتداولية”[38] ومن يتصفح مختلف أجزاء هذا المعجم وصفحاته يسلّم بأنّه من أهم المصادر التي يمكن للباحث في اللسانيات والتداولية وتحليل الخطاب ايضا أن يستفيد منه استفادة لا حدود لها ، بدءا بالإطار المعرفي الذي نشأت ضمنه “نظرية الأعمال اللغوية”  مرورا  بما سمي “بالتداولية المدمجة[39] والتداولية العرفانية”[40] وانتهاء بعشرات المصطلحات والمفاهيم اللسانية والتداولية والبنيوية والشكلانية والحجاجية  التي تساهم في الارتقاء بالوعي اللساني  لدى الباحث العربي.

وبالطبع إن نحن اخترنا نماذج من صلب اختصاصنا فلا يعني ذلك أنّ بعض الترجمات الأخرى التي فاز أصحابها  بإحدى الجوائز ليست في قيمة ما سلّطنا عليه الضوء وأفَضْنا في الحديث عنه. فكتاب ككتاب “أسس الجراحة العصبية”، تأليف أندرو كاي، وترجمة  شريف محمد الزتيدي وعصام الدين علي الجمال سنة 2009م، أو كتاب “الكيمياء الفيزيائية” الذي  ترجمه من الأنجليزية ناصر محمد العندس وعبد الله علي القحطاني و أحمد عبد العزيز العويس سنة 2009م وغيرها من الكتب العلمية  التي تلبي حاجات علمية وبحثية أكيدة سواء في مجال الطب والجراحة أو في مجال الفيزياء والذرة، هي على درجة كبرى من الأهمية. لهدا السّبب نعتقد أنّ الجائزة والقيّمين عليها توفّقوا إلى حدّ بعيد حين نوّعوا مجالات الترجمة وموضوعاتها وقراءها وأنواع الباحثين المحتاجين إليها.

والمؤكد أنّ هذه السياسة لا يمكن أن تختزل نشاط المؤسسة في عرض الترجمات على التحكيم وترتيب المترجمين وتتويج الفائزين منهم في مناسبات احتفالية كبرى، بل  وراء هذا التنويع والتفريع الذي تحدثنا عنه استراتجية ثقافية تتجاوز نطاق المملكة لتشمل العالم العربي مشرقا ومغربيا. ولا أدلّ على صرامة المعايير التي تحتكم إليها اللجنة، حجبُ بعض الجوائز رغم وجود ترجمات لم ترتق حسب المجلس العلمي للجائزة إلى المستوى العلمي المطلوب.

4- وممّا يؤكد هذه الاستراتجية الثقافية ما اختارته لجنة تنظيم الجائزة ومجلس إدارتها منذ الدورة الثالثة تسليم الجوائز والاحتفال بذلك في إحدى المدن العالمية من بارس إلى الدار البيضاء إلى بكين إلى برلين إلى طليلطة إلى ساوباولو إلى جينيف إلى الإسكندرية فضلا عن الرياض طبعا.

ولا شكّ أنّ التعريف بالجائزة وأهدافها والتاكيد على بعدها الكوني، والانفتاح على كل لغات العالم وتشجيع المختصين في مختلف الميادين، بأن ينفتحوا على الثقافة واللغة العربيتين خطوة أساسية نحو “العولمة” لكن في اتجاه مغاير لما كنّا عليه منذ عصر النهضة إلى عقود قليلة ماضية. إنّ الانتقال في كل دورة من عاصمة ثقافية إلى أخرى ومن لغة إلى لغة أخرى ومن حضارة إلى حضارة مختلفة يحقق فضلا عن التقارب بين المجتمعات والشعوب بعضا من إشعاع الثقافة العربية  وترسيخ بعدها الكوني.

هذه الثقافة التي كثيرا ما وصفت بالمحافظة والانغلاق والتقوقع ها هي “تغزو” بمثل هذه المبادرات وهذه المؤسسات “أسواقا” ثقافية كانت موصدة أو مجهولة إلى وقت قريب. لهذا السبب تحدثنا عن استراتجية ثقافية جديدة تجسدها مؤسسة “جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدد الله العالمية للترجمة”.

على سبيل الخاتمة:

يعسر أن نلمّ في دراسة واحدة بكل ما تطرحة الترجمة من إشكاليات وما يحول دون نشاطها المطّرد والمُنَظَّم في عالمنا العربي من عقبات بدءا بالعمل على الحدّ من التشتت الاصطلاحي المربك في الكثير من الأحيان وانتهاء بانعدام الرقابة الأكاديمية الصارمة لفعل الترجمة. ومثلما استحدثنا مجامع للغة العربية سعيا إلى توحيد بعض الاستعمالات وتطوير المعجم العربي عبر الاشتقاق والنحت والتعريب، يمكن أن نحلم بتأسيس مجامع عربية للترجمة تستقطب كبار المختصين والمترجمين حتى نحقق هدفين متكاملين: تقليص الفجوات الزمانية بين صدور المصنفات العلمية والنقدية والفلسفية المهمة في الغرب وزمن ترجمتها ونقلها إلى اللغة العربية. ومن خلال النظر في تواريخ صدور بعض الكتب الأجنبية التي فاز أصحابها بترجمتها في نطاق هذه الجائزة لاحظنا  تقلّص المسافة الزمانية بين تاريخ النشر في اللغة الأصلية وتاريخ الترجمة[41]، وهذا يدل على تطور محمود ووعي مؤكد بضرورة تجسير الهوة الثقافية والعلمية والحضارية بين عالمنا العربي والعالم الغربي. أمّا الهدف الثاني فالعمل على توحيد المصطلحات والحدّ من تشتتها حتى لو كانت الدوافع إلى ذلك وجيهة. إذ لا يخفى أنّ الكثير من الفوضى تسود أوساطنا العلمية نتيجة انعدام  التنسيق والتعويل في الكثير من الأحيان على الجهود الفردية.والمؤسسات  الخاصة والرسمية على وجه الخصوص هي القادرة على تحويل الترجمة إلى أهم روافد تقدمنا العلمي وإشعاعنا الحضاري.

 

[1] انظر ، عتيقة  حيدوش،  أصول الترجمة عند الجاحظ، مجلة معارف ، الجزائر،   ، السنة الخامسة، ع 9،  ص 151

[2] ما نعنيه بالفكرة الأخيرة، أنّ التبادل التجاري بين الشعوب المتجاورة ضرورة شهدتها كل المجتمعات ، وهو ما يعبّر عنه مبدأ ” الاقتراض” بين اللغات، وهو ما يفسر جزئيا أيضا دخول العديد من الكلمات الفارسية إلى اللغة العربية مثلا والأمر نفسه بالنسبة إلى اللغة البيزنطية. غير أنّ المستوى الثاني والأهم في موضوع الترجمة والمتعلق بنقل المعارف والعلوم لا يتسنّى إلا إذا بلغت ثقافة ما وحضارة ما درجة من النضج والتطور تجعلها في حاجة إلى الاقتداء ببعض الثقافات المهيمنة والتي نبغت في حقول معرفية مختلفة كالمنطق والفلسفة والرياضيات وغيرها وهو ما جسدته أحسن تجسيد  الثقافة اليونانية.  هذا ما يصدق على الحضارة العربية حين تحولت الترجمة إلى مؤسسة رسمية  تمولها بل تخطط برامجها ، الأمر الذي  تمثله مؤسسة ” بيت الحكمة” المؤسسة التي أسسها الخليفة  هارون الرشيد والتي بلغت أوج ازدهارها في عصر المأمون.

[3] انظر مقدمة المترجمة فايزة القاسم لكتاب : التأويل سبيلا إلى الترجمة،  بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009، ص 8.

[4] نخصّ بالذكر في هذا السياق ترجمة متى بن يونس (ت 322هـ) لكتاب أرسطو “فن الشعر ” ، واضطرار المترجم إلى أن يؤوّل الكثير من كلام صاحب الكتاب  وأن ينقله نقلا  ابتعد  به عن الأصل. غير أنّ ذلك لم يكن بسبب جهلٍ باللغة التي نقل عنها بالضرورة بل بسبب غموض بعض المفاهيم التي كانت مرتبطة بطبيعة الشعر اليوناني، وهو شعر “درامي Dramatique” من جهة  و”ملحمي Épique” من جهة ثانية يختلف كثيرا في بنيته وأسسه الفنية عن “الشعر الغنائي” Poésie  Lyrique كما  هو الحال في تراثنا القديم.

انظر مقالنا بعنوان “المحاكاة والتخييل، هجرة المصطلح وتطور المفهوم من البلاغة اليونانية إلى البلاغة العربية”، مجلة إنسانيات، تونس، العدد 21-22 ، 2021 .

[5] من ذلك إشارته المهمة إلى ترجمة ما سُمّي بالصحيفة الهندية، في سياق حديثه عن وفد من الأطباء الهنود  قدم إلى بلاط  أحد كتاب هارون الرشيد ووزرائه: خالد بن يحي البرمكي. وهي الصحيفة التي تضمنت تعريفات للبلاغة والخطابة وبعض قواعدها وشروطها. وهذا نص الخبر: ” قال معمّر، أبو الأشعث: قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند، …: ما البلاغة عند الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكن لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها.

قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها:

أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة. وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة. ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كلّ التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ولا يصفها كل التصفية، ولا يهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما، أو فيلسوفا عليما، ومن قد تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة الاعتراض والتصفح، وعلى وجه الاستطراف والنّظر”. 

انظر” . البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت،دار الجيل، د ت، ط1، 1948الجزء الأول، ص 96.

[6] وفي ذلك يقول: “والشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى تحول تقطع نظمه وبطل وزنه، ّهب حسنه ووسقط موضع التعجب،”  الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، شركة مصطفى الحلبي، ط2، 1965، ج1، ص75.

هذه المسألة ما زلت موضوع تفكير وبحث إلى عصرنا الحديث وفي ذلك يختلف الباحثون. انظر مثلا :

– Thomas Bernard- West, Poésie : Théorie et pratique de la traduction irrationnelle, Revue Française, Etudes Américaines, n 18,novembre 1983/ 465-478.

[7] نفسه ، ص 86.

[8] أي إلى عصر التدوين تقريبا ، وبداية تدوين  تاريخ العرب  قبل الإسلام  وبعده  فضلا عن  تراثهم الشعري  والأدبي  ومجمل مآثرهم . انظر في هذا الصدد : محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت، (القسم الأول، الفصل الثالث، عصر التدوين والإطار المرجعي للفكر العربي). 

[9] الحيوان، ج 1 ، ص 75. وفي هذا السياق يجب التأكيد على أنّ الجاحظ كان يصوغ بعض الأفكار حول الترجمة انطلاقا من واقع عصره ومن واقع الترجمة في عصره. وقد عاب على بعض التراجمة ممن ذكرهم بالإسم ( مثل ابن ابطريق وابن ناعمة وابن قرة …) ما تسرب إلى ترجماتهم من أخطاء أو انعدام للدقة، والسبب لا يعود إلى إتقان اللغة المنقول إليها والمنقول منها فحسب ، بل يعود إلى عدم تخصص هذا المترجم أو ذاك كتخصص هذا العالم أو الحكيم اليوناني أو غيره. ومن ثمة يقول : “وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها ، والإخبار عنها على حقّها وصدقها، إلاّ
 أن يكون  في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها،وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله ابن البطريق وابن ناعمة وابن قرّة  وابن فهريز وثيفيل وابن وهيلى وابن المقفع مثل أرسطاطاليس، ومتى كان خالد (بن يزيد ) مثل أفلاطون” ص 76.

[10] انظر بول ريكور، بؤس الإيديولوجيا نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي، ترجمة عبد الحميد قمبرة،بيروت، دار الساقي، 1992، صص 17-37.

[11] الحيوان، ج1، ص 86.

[12]  نفسه، صص 85-86.

[13]  انظر مقدمة كتاب أرسطو “الحيوان”، ترجمة يوحنا البطريق، تحقيق  عبد الرحمان بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط1 1987، صص 29-30.

[14]  وهي الرسائل التي اقتفى فيها أثر أرسطو في تناول قضايا فلسفية كحدوث العلم وماهية والنفس والحقيقة وماهية العقل وغيرها .

انظر: الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1950.

[15] ابن خلدون، المقدمة، الفصل الثالث والأربعون، “في أنّ حملة العلم في الإسلام  أكثرهم العجم”. والمقصود بهذا الفصل لم يكن تفضيل الأعاجم على العرب بل الإشارة إلى قدرة الثقافة العربية على استيعاب العناصر الجنبية وتحويلها عامل قوة وازدهار وهو ما جسدته علوم مختلفة كان على رأسها او من اشهر علمائها من الأعاجم.تونس، الدار التونسية للنشر ومكتبة المدينة المنورة للنشر والتوزيع، 1984، صص 707-708. 

[16] يمثل كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر” في رأينا أفضل نمودج في التفكير يجسد هذه المقولة. ورغم عقلانية طه حسين ومآثرة الكثيرة  في ميادين مختلفة كالتاريخ والنقد والفكر فإنّ ما حواه الكتاب المذكور يكاد يجسد فكرة التماهي مع الآخر ويكاد يسلم تسليما بأطروحة الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان  القاضية  بتفوق الحضارة الأروبية على الحضارة السامية والعربية بحكم عقلانية الأولى و”روحانية” الثانية وارتباطها بنزول الأديان وهيمنة العقلية السحرية وغير العقلانية عليها.

[17] انظر : لطفي بن علي، المدرسة الحربية ودورها التنويري والرائد، المجلة التونسية للتاريخ العسكري، العدد السابع 2017 صص 9-24، وفيها تفصيل القول في مدرسة باردو الحربية  وهي هي أول مدرسة عصرية أسسها حاكم  تونس أحمد باشا باي (1837-1855) بضاحية باردو-تونس  في مارس 1840. وتذكر ضمن أهم الإصلاحات التي تميز بها عهده. وكانت تهدف إلى تخريج الضباط الفنيين والمهندسين والموظفين.وقد أسندت إدارتها إلى مستشرق إيطالي يسمى كاليغاريس. أما إطارها فقد تشكل من أساتذة إيطاليين وإنجليز وفرنسيين، قاموا بتدريس المواد العصرية من رياضيات ومدفعية وتاريخ وجغرافيا ولغات أجنبية (فرنسية وإيطالية).

أمّا المثال الثاني المهم فيتعلق بمدرسة الألسن المصرية التي أسسها الطهطاري (1801-1873) سنة 1835 أثناء حكم محمد علي، وكانت تضم في أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية.

انظر: محمد عمارة، رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، القاهرة، دار الشروق، ط3، 2007، ص70-74.

[18] انظر مقال الفرنسي مارك اوناي، الترجمة ورهاناتها:

6-Marc de Launay, La Traduction et ses enjeux, in Equivalences, 24 e année n1 , 1994 , pp 25-36

[19] مما تذكره بعض الدراسات المختصة أنّ الغرب ينتج كل سنة 40 ألف مصطلح جديد. وهو أمر نلمسه بالخصوص في مجال صناعة أجهزة التواصل التي أصبح الصناعة الأولى في العالم تقريبا.

[20] انظر: الترجمة في العالم العربي، تنسيق وتقديم صالح الماجري والطيب اابكوش.

Journal des traducteurs, Volume 45, numéro3, septembre 2000, La Traduction dans le monde arabe

Salah Mejri et Taib Baccouche , Présentation pp 393-394.

https://www.erudit.org/fr/revues/meta/2000-v45-n3-meta162.

– انظر أيضا: شوقي جلال، الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحديات في ضوء إحصائية واضحة الدلالة، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1 2010. وفيه تفاصيل كثيرة عن واقع الترجمة في عالمنا العربي وفي الغرب وأروبا والولايات المتحدة خصوصا. ومن الإرقام الدالة أنّ العرب لم يترجموا مند تاريخهم القديم إلى العصر الحديث سوى عشرة آلاف كتاب في حين يترجم الإسبان لوحدهم أكثر من 10000 كتاب كلّ سنة. ، صص 18-20.

[21] بيير جيرو، الأسلوبية، ترجمة منذر عياشي، حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط2، 1994.

-Pierre Guireau, Stylistique, Paris, PUF, 1973.

[22] Quintilien, L’institution oratoire, Texte établit et traduit par Jean Coussin, éd Les Belles Lettres, 1979, Tome XI, p227.

[23] Roland Barthes, L ancienne rhétorique aide mémoire, in communications, 1970, -16- pp 172-223 .

[24] نضيف إلى ذلك ترجمة مصطلح [Invention] بالابتداع، هي ترجمة غير دقيقة. والترجمة التي يستخدمها أهل الاختصاص هي: الإيجاد. انظر دراسة هشام الريفي ، “الحجاج عند أرسطو”، وفيها تناول هذه المسألة في بعدها الاصطلاحي واقترح ترجمة ثانية للمصطلح اللاتيني هي الاستكشاف. ضمن كتاب أهم النظريات الحجاجية في التقاليد الغربية، منذ أرسطو إلى اليوم، إشراف حمادي صمود، تونس، جامعة الآداب والفنون والإنسانيات،  تونس 1، كلية الآداب، 1998، ص 175.

[25] عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، تونس الدا العربية للكتاب، ط 2، 1982، ص  54.

[26]  الفارابي، الخطابة، تحقيق جاك لنغاد، وم. قريقاشي، بيروت، دار اشرق، 1971، ص 6.

[27] والترجمة المتداولة بكثرة هي التداولية، لكن توجد ترجمات أخرى من قبيل براغماتية و”علم المقاصد” (انظر تحليل الخطاب ليول وبرواون، ترجمة منير التريكي ومحمد لطفي الزليطني، الرياض، دامعة الملك سعود، 1997).

[28] وتترجم في الوقت نفسه بـ: عرفانية (تونس)، ومعرفية (المغرب)، وإدراكية ( مصر).

[29] وتترجم بخطابة وبلاغة وبيان وغيرها.

[30] انظر: إدغار موران، تعليم الحياة، بيان لتغيير التربية، ترجمة الطاهر بن يحي، بيروت، منشورات ضفاف، 2016 ط1، صص 53-64 .

-Edgard Morin, Enseigner a vire, Manifeste pour changer l’éducation, Paris, Actes Sud, Play Bac, 2014.  .

[31] نشير إلى جائزتين مهمتين في هذا السياق: جائزة كاترا للترجمة في قطر، وجائزة الشارقة  في الإمارات العربية المتحدة.

[32] ترجمة المستشرقة كلاودديا  تريستو إلى اللغة الإيطالية ،.الدورة السادسة .، 2013.

[33] ترجمة عبد السلام شدادي إلى الفرنسية  الدورة السادسة.

[34] ترجمه فرانس شوب، إلى اللغة الألمانية  الدورة الرابعة 2011.

[35] ترجمة محمد الطاهر الميساوي إلى الفرنسية، الدورة الثانية .، 2008.

[36] معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2008، ص 45.

[37] معجم تحليل الخطاب، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2008.

Patrick Charaudeau, Dominique Maingueneau, Dictionnaire d’Analyse du Discours, Paris, Ed Seuil,2002.

[38] جاك موشلير وأن ريبول، المعجم الموسوعي للتداولية، ترجمه من الفرنسية مجموعة من أساتذة اللغة واللسانيات التونسيين، بتنسيق من الأستاذ عز الدين مجدوب، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010.

[39] يتزعمها الفرنسيان (ديكرو Ducrot) و(أنسكمبر Anscombre)

[40] ويتزعمها  (سبربر Sperber) و(ولسون Wilson)

[41] لم يمض على تاريخ نشر معجم تحليل الخطاب الذي تناولناه ببعض التحليل سوى ست سنوات قبل ترجمته.

قم بتسجيل الدخول لتتمكن من التعليق دخول