التسجيلة
العدد الثاني 01/22/2023
مجلة رقمية دورية تصدر عن الفهرس العربي الموحد
مدير عام مركز تفسير للدراسات القرآنية وأستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود
مدير عام مركز تفسير للدراسات القرآنية وأستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود
تاريخ النشر : 18 أكتوبر، 2022
ترجمات القرآن الكريم

 موضوع ترجمات القرآن الكريم يخاطب المختصين في الدراسات القرآنية في العالم الإسلامي والأساتذة في الجامعات العربية والإسلامية وأيضا المستشرقين والباحثين في الجامعات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة. ويشير البحث العلمي والدوواين والكتب المخطوطة خلال الست قرون الأولى من ميلاد عيسى عليه السلام بخصوص بدء اهتمام الغربيين بالقرآن الكريم وأسباب هذا الاهتمام أنه لا يوجد أي إشارة للاتصال بين الغربيين والعرب حتى جاء القرن السابع الميلادي وظهر دين الإسلام في الجزيرة العربية وظلت أوروبا لبعض الوقت غير مكترثة بهذا الحدث وهو ظهور الإسلام حتى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 632م، والنبي صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم في آخر حياته غزا غزوة تبوك وبدأ في الاحتكاك بالغرب والاحتكاك بالرومان فلما أضحت للإسلام قوة عسكرية وهيمنة صاعدة أصبحت مصدر قلق للإمبراطورية الرومانية – خاصة لما فتح المسلمون بلاد فارس وسوريا ومصر وبعض الأجزاء من تركيا وشمال أفريقيا وتغلب الإسلام على إسبانيا وصقلية وأجزاء من فرنسا خلال القرن الثامن الميلادي-، وشهد القرنان الثالث عشر والرابع عشر بعد ذلك امتداد الإسلام إلى الهند واندونيسيا والصين، وهذا الانتشار للإسلام أثار الخوف لدى الأوروبيين. ثم بدأ عهد جديد من التواصل والاحتكاك بين العالم العربي والغربي مع اندلاع الحروب الصليبية، فالإفرنج الذين جاءوا لإنقاذ الأراضي المقدسة كما يعتبرونها اعتبروا العرب جنسا وثنيا واعتبروا أنهم يتخذون من محمد صلى الله عليه وسلم إله ثم بدأوا في الوقوف على بعض الخصائص الجميلة في الشخصية العربية كالفروسية والتي لم يستطيعوا منع أنفسهم من الاعجاب بها. أيضا بدأ ينمو في الغرب فكر جديد يعي حقيقة العرب ولكن هذا أدى إلى رد فعل جعل الموقف الغربي تجاه العرب والإسلام أكثر عداء وكالعادة كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: ” ليسوا سواء” يعني الغرب ليسوا جنسا واحدا فهناك منهم المنصفون وهناك منهم من يكنون العداء للإسلام والعرب وللشرق عمومًا وهناك من هو دون ذلك وهناك المحايدون فهذه الحال قديمًا وحديثًا لاتزال هي الحقيقة.

وفي نهاية القرن السابع عشر انتبهت أوروبا أيضا للخطر الإسلامي كما يسمونه في أيام الدولة العثمانية وكل الكتب الأدبية الأوروبية التي كتبت مؤخرًا عن العرب وعن الإسلام منذ العصور الوسطى وحتى الحرب العالمية الأولى التي انتصرت فيها أوروبا على الدولة العثمانية، ورأت أوروبا في الإسلام في ذلك الوقت خطرًا حقيقيًا من نواحٍ كثيرة، فرأوا أن العرب قريبين من العالم المسيحي جغرافيا وحضاريا بشكل يثير القلق لديهم وجعلهم يفكرون وينظرون كيف يتصدون لهذا الخطر الإسلامي، وعندما استقر المسلمون في بعض البلاد المجاورة للغرب خاصة في بلاد الشام وفلسطين وبلاد فارس، ثم بعد ذلك في قلب أوروبا في الأندلس بدأ الاهتمام يتزايد بما جاء به هؤلاء العرب والمسلمون من مفاهيم دينية وهي مفاهيم جديدة عليهم تغاير المفاهيم النصرانية السائدة والمفاهيم اليهودية المنشرة في أوروبا حتى ذلك الحين.

ومن هنا يمكن القول أن الغرب بدأ في السعي وراء معرفة ما جاء به هؤلاء القادمون من الجزيرة العربية لأجل تفسيره التفسير الذي يحقق مصالح الغرب وحاجاته ولأجل دحض ما جاء به هؤلاء القادمون الجدد على الخريطة العالمية، ومن هناك تمت ترجمة القرآن الكريم إلى الكثير من اللغات واحتوت النصوص المترجمة على تشويه متعمد أحيانا وغير متعمد أحيانا أخرى. ولكن هذه الأنواع من الترجمة حملت بداخلها أهداف سياسية بالدرجة الأولى لأن القرآن الكريم يمثل جوهر الإسلام فلم تكن محاولة الغرب تفسير وترجمة القرآن الكريم إلا محاولةً لتفسير الإسلام وفهمه وفهم الشرق.

واقع ترجمات القرآن في الغرب

منذ بدء دراسة ترجمات القرآن الكريم المختلفة التي تمت في الغرب أخذت تكشف لنا أن هناك تحولات في تفسير النص القرآني اختلفت باختلاف الحضارات والأزمان التي تمت فيها الترجمة لتحقيق أغراض معينة لأن كل مترجم في الحقيقة هو مفسر ولا يمكن للمفسر أن يكون محايدًا أو موضوعيًا؛ لهذا جاءت كل ترجمة من هذه الترجمات محكومة بقيود سياسية اجتماعية حضارية معينة وتمت من أجل خدمة مصالح وأهداف معينة ويتضح ذلك من خلال التغيرات التي طرأت على موقف الغرب من القرآن الكريم وموقفهم من الإسلام عبر العصور التاريخية. وخلال العصور الوسطى تمت كثير من الترجمات وأول محاولة لترجمة القرآن الكريم كانت في إسبانيا، وإسبانيا كما هو معلوم استمر فيها الإسلام ثمانية قرون تقريبا وكانت محاولة الترجمة على يد رجال الدين أنفسهم فقام راهب مشهور اسمه الراهب بطرس المبجل بالمحاولة الأولى لإزالة الجهل الغربي عن القرآن الكريم وهذا كان في القرن الثاني عشر الميلادي. وكان هدفهم من تلك الترجمة إعلام المسيحيين الغربيين بالإسلام كمحاولة في مساعدة الإرساليات التي ذهبت لإعادة تنصير الذين اعتنقوا الإسلام في إسبانيا. ولهذا خلال زيارته لبعض المدن الإسبانية في عام 1141 م قام بإعداد خطة لدراسة القرآن الكريم وترجمة الكتاب المقدس للمسلمين وهو أيضا برغم إدعاءه أنه لم يغير شيئا من المعنى إلا ليوضح النص إلا أنه قام بحذف أجزاء بأكملها من القرآن وأخطأ في الترجمة وأعاد ترتيب السور من عنده وأضاف من عنده ليشرح السور المنفصلة ويصلها ببعضها البعض كما يقول واستخلص نتائج لا وجود لها ولا صلة بينها وبين القرآن الكريم.

ثم ظهرت بعد ذلك ترجمات شبه كاملة للقرآن الكريم في القرن الحادي عشر واللغة اللاتينية وهي اللغة الرسمية للإمبراطورية الرومانية ولجميع مقاطعاتها في أوروبا وقام بهذه الترجمة أيضا في مدينة طليطلة بالأندلس وقد كان فيها مركز يعتبر أول مركز للترجمة في أوروبا ولا تزال آثاره باقية إلى اليوم، فقام روبير دي رتين بترجمة القرآن الكريم بناء على طلب رسمي من البابا في الكنيسة الكاثوليكية في روما خلال زيارته للأندلس ويبدو أن هذا البابا زار مركز الترجمة الموجود في طليطلة فطلب من القسيس روبير دي ريتين أن يترجم المصحف أو القرآن الكريم. ولم تكن هذه الترجمة ترجمة مخلصة ولا صادقة ولا كاملة للنص القرآني، وبالرغم من أن تلك الترجمة لم تتداول بسبب عدم ظهور الطباعة في ذلك الوقت إلا أنها ظلت الترجمة الوحيدة في أوروبا حتى القرن الرابع عشر الميلادي حينما قام ريمون ليل بترجمة أخرى للقرآن للغة اللاتينية ولكن على ما يبدو ظل الجهل بالإسلام وبالقرآن منتشرا في البلاد الأوروبية إلى أن ازدادت الترجمات في عدة مدن أوروبية مهمة وفي الأوساط العلمية في إيطاليا وفي فرنسا وفي هولندا وسويسرا فظهرت أولى الترجمات المطبوعة باللغة اللاتينية في مدينة بازل في سويسرا عام1543م للمترجم بيير دي كلوني ثم إلى اللغة البريطانية في فينيسيا لأندريه ريجان عام 1547م وهاتين الترجمتين كانت تنسب القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا شأن الدراسات الغربية عموما فهم يرون أن القرآن الكريم هو من عند محمد عليه الصلاة والسلام.

ثم جاءت محاولة ثانية أيضًا لترجمة معاني القرآن الكريم في طليطلة وليست بهدف التعرف على هذا الدين ودراسته دراسة موضوعية ولكن بغرض دحض هذا الدين الجديد ومحاربة أفكاره وقيمه ومفاهيمه وإقناع الناس بأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين ليس نبيًا وإنما قام بتأليف القرآن بعد أن تتلمذ على يد الرهبان وغير ذلك.

وعلى أي حال إن محاولة الفهم والتقييم العالي للإسلام والقرآن من جانب الغرب لم تجد صدى واسع في أوروبا في تلك الحقبة ولذلك ضعفت هذه الظاهرة ولم تستمر ولم تظهر ترجمات جديدة يعني من عام 1252م إلى 1248م بعدها لم تظهر ترجمات حتى بدايات القرن الثامن عشر لما تصاعد الخطر العثماني كما يسمونه في أوروبا خاصة منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر حتى القرن 18 فضلا عن الهزائم التي لحقت بالحملات الصليبية وأيضا بروز المغول ما بين عام 1260م وعام 1290م الذين برزوا في الهند، وأيضا ظهرت الحاجة إلى الوحدة بين العالم المسيحي والإسلام لأجل التصدي لهذا الخطر القادم من المغول في قلب آسيا في ذلك الوقت وكان متقدمًا لأوروبا، ففي هذه المرحلة خفت الاهتمامات الجادة في الغرب بالإسلام في القرنين 14 و15 بسبب الصراعات الداخلية في أوروبا أيضا نفسها، بينما كانت الإمبراطورية الإسلامية قد اتسعت رقعتها إلى حدود الصين والهند بعيدًا عن أوروبا فهذا جعل الدراسات عن الإسلام وعن القرآن تقل في تلك المرحلة.

ولما بدأت الدولة العثمانية تتوسع في شرق أوروبا الشرقية وفي البلقان وأيضا عندما سقطت القسطنطينية في يد المسلمين عام 1453م وباتت حتى المجر مهددة، وهنا استيقظ الأوروبيون ورأوا أنه لابد من العمل على تحجيم هذا الخطر الإسلامي، وظهرت عدة محاولات جادة لترجمة القرآن الكريم وكثرت، وقام بها كل من جون سقوفيا John Of Segovia ونيكولاس القوصي Nicholas Of Cusa، وجون جيرمين Jean Germain وغيرهم. وأيضا بعد اختراع الطباعة عام 1450م انتشرت الترجمة بلغات أوروبية مختلفة ومنذ ذلك الحين تتابعت الترجمات فظهرت الترجمة الإيطالية عام مم1547 وكانت أول ترجمة إلى لغة أوروبية حديثة، وأيضا خلال القرن السادس عشر كان الإسلام لا يزال قوة عالمية إذ كان قد تم انشاء ثلاث امبراطوريات إسلامية، والعثمانيين كانوا مسيطرين في آسيا الصغرى وفي شرق أوروبا والصفويون كانوا في إيران والمغول كانوا في الهند، والعثمانيون كانوا أشد هؤلاء الثلاثة خطرًا على الأوروبيين مما دفع كثيرًا من الكتاب ورجال الدين الغربيين إلى الاعتقاد بقرب نهاية العالم في ذلك الوقت، وكثرت الكتابات التي ترى نهاية العالم وأن الإسلام سوف يكتسح أوروبا.

ظهر بعد ذلك كاتب يرى أنه بالإمكان تحقيق الخلاص للبشر جميعا -كما يقول- وعليه أن يعمل على تحويل المسلمين عن دينهم ولكي يهيئ نفسه لذلك قرر أن يدرس الإسلام، ثم قام بمحاولة ترجمة القرآن الكريم وترجمه فعلا لكن القساوسة في أوروبا احتجوا على طبع تلك الترجمة وقالوا أن القرآن كتاب شرير لا يجوز أن ينشر ولابد من طمسه ووقع نزاع بينهم وبين هذا المؤلف والمترجم وبعد مناقشات ومداولات سمح له بطباعة الكتاب؛ لكن كتب في الصفحة الأولى تحذير يدين محتوى هذا الكتاب ويرى أنه كتاب مليء بالشر والخرافات.

والكلام يطول في قضية ترجمة القرآن الكريم وانتشاره في أوروبا، حيث كثرت الترجمات في القرن العشرين وقام بها نصارى ويهود وغيرهم، و ظهرت في أواخر القرن العشرين ترجمات أحدثت ضجة في العالم الإسلامي وفي الغرب وربما أحدث هذا صحوة من جانب المترجمين المسلمين أيضًا، وشهد القرن العشرين بعض الترجمات من قبل المسلمين والتي  بدأت عام 1936م عندما أصدر  مجلس الوزراء المصري قرارا رسميًا بموافقته على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية يقوم به مشايخ الأزهر وتساعده وزارة الأوقاف وذلك وفقا لفتوى هيئة كبار العلماء وكانت هذه أولى المحاولات في ترجمة معاني القرآن إلى لغات مختلفة.

 وخلاصة القول بالرغم من التقدم الذي أحرزته ترجمات معاني القرآن الكريم في القرن العشرين حيث ظهرت عدة ترجمات احترم مؤلفوها النص القرآني من الغربيين أنفسهم وبذلت جهودا كبيرة للحفاظ على معانيه وتناسق ترجمته فبعض العلماء المسلمين والذين أنجزوا هذه الترجمات من العربية إلى اللغات الأوروبية اتهموا المستشرقين غير المسلمين الذين ترجموا القرآن بالجهل وعدم الأمانة وعدم الدقة العلمية وعدم الموضوعية.

واقع التواصل العلمي بين الباحثين في الشرق والغرب في وقتنا الراهن

نشطت حركة الدراسات القرآنية في الغرب في القرنين الأخيرين 20و 19 بشكل كبير جدا حتى أصبح لها معاهد وأقسام وأكاديميات ومراكز بحثية وكراسي علمية ومجلات محكمة ومشروعات متخصصة؛ وهذا يدل على الاهتمام الكبير في الغرب بالقرآن الكريم ودراساته. وشارك في هذا الحراك العلمي المرتبط بالقرآن الكريم باحثون غربيون من مختلف أنحاء الغرب (أوروبا وأمريكا وأستراليا وحتى من روسيا واليابان والصين)، وشارك فيها كذلك باحثون مسلمون من العرب وغير العرب ممن التحقوا بالمعاهد والجامعات الغربية وكتبوا بحوثهم في تلك المعاهد وفق المناهج الغربية السائدة والمنتشرة نتيجة البعثات إلى فرنسا وبريطانيا من المسلمون وألمانيا وأمريكا ودرسوا هناك دراسات قرآنية. فالدراسات الغربية عن القرآن الكريم واسعة جدا ويصعب الإحاطة بها لعوامل كثيرة منها:

  1. كثرة الإنتاج الغربي في الدراسات القرآنية (بحوث، كتب، مقالات) وتسارعه أيضا بشكل مذهل.
  2. تنوع اللغات التي ينتج بها هذا الدرس القرآني في الغرب.
  3. ضعف التعريب والترجمة الى العربية لهذه الدراسات.

والمختصون في أقسام الدراسات القرآنية في العالم العربي يشتكون أن لديهم انفصال تام عن الدراسات التي تحدث في الغرب حول القران الكريم وعلومه وحتى إن تناولوه فإنهم يتناولونه من منطق الرد واستبعاد هذه النتائج والدراسات، وغالبًا عدم معرفتهم باللغات الأجنبية (الإنجليزية والفرنسية والألمانية) يحول دون المساجلة الصحيحة والمثاقفة مع هذه الدراسات؛ وهذا يقود للحديث حول مسألة مهمة وهي مسألة التواصل العلمي بين الباحثين في الشرق والغرب لأن الانقطاع بين الشرق والغرب ظل متواصلًا مدة طويلة ولم يكن هناك تواصل بالمعنى العلمي الحقيقي إلا في القرنين الأخيرين، ثم بدأ يزداد شيئا فشيئا بفعل التقارب الشرق والغربي وأيضا من خلال الابتعاث وحضور كثير من الباحثين الغربين للشرق لإجراء الدراسات ونحو ذلك؛ باستثناء بعض الدراسات الاستشراقية العربية التي ينجزها باحثون عرب عن القرآن والتي تسرق أو تقتبس الرؤى الاستشراقية الغربية دون إحالة إليها. ولاتزال الدراسات الغربية حول القرآن بالنسبة لأغلب المشتغلين في الدراسات القرآنية في العالم العربي في إطار الاستكشاف ومحاولة التعرف رغم مضي زمن على صدورها وأصبح كثير منها في حيز الماضي؛ لذا من المبكر في نظري الحديث عن التثاقف والتفاعل والتواصل الحقيقي بشكل جيد مع هذه الدراسات.

وبالتأكيد الشروع في التعرف على هذه الدراسات الغربية من قبل الباحثين العرب أمر إيجابي رغم تأخره، والحملة العربية المكثفة لترجمة الدراسات الغربية رغم الفوضى التي فيها سيكون لها بإذن الله إيجابيات من حيث ردم الهوة ومحاولة التعرف على هذه الدراسات، أما بالنسبة للباحثين في الشرق فهناك ضعف كبير، والاعتماد الغربي على الدراسات العربية محصور بالتراث الذي يكون موضوعا للدراسة، والباحثين في الغرب يشكون دومًا من عدم وجود مراكز بحثية جادة ومنفتحة على الثقافة الغربية في العالم الإسلامي يمكن التواصل معها وتبادل وجهات النظر.

أهم اتجاهات البحث الخاصة بالقرآن الكريم في المعاهد والمراكز الغربية

حقل الدراسات القرآنية في الغرب دائما متطور وسريع التغير لاسيما في العقود الأخيرة، ويحظى بمزيد من الاهتمام يومًا بعد يوم، واستحدثت له مؤسسات ومشاريع بحثية ومؤتمرات ومجلات وأنجزت حوله موسوعات وسلاسل كتب متخصصة وتخضع دراساته لمراجعات مستمرة، ومن ذلك مثلا الشروع في إعادة تحرير الموسوعة القرآنية الشهيرة التي أنتجت في الغرب والتي كانت تعكس الدراسات القرآنية الغربية، ونفس هذه المناهج التي ضمنوها في هذه الموسوعة خضعت من قبل لنقد غربي داخلي وكتب فيها أيضا الباحثون المسلمون كثيرًا من النقد هذا من حيث العموم، أما من حيث المنهج فلا تزال تتنازع الدراسات القرآنية الغربية اتجاهات مختلفة حتى وصفت بالفوضى بسبب كثرتها واختلافها لكنها مع هذا الاختلاف والتنوع يجمعها إطار العمل الأكاديمي الذي ينتظم في جامعات ومؤسسات غربية. وهي تعتبر من المؤسسات العريقة في الغرب بل أصبحت الدراسات القرآنية اليوم موضوعًا عالميا واشتغال عالمي بها وهذه فرصة للباحثين فأصبح له رابطة دولية أنشئت في أوروبا تجمع المتخصصين من جميع انحاء العالم متجاوزة المنهجيات والأديان ويحق لكل مهتم بالدراسات القرآنية الانضمام لهذه الجمعية وهي جمعية مشهورة سموها “الجمعية الدولية للدراسات القرآنية” وأسست عام 2012 م ثم تحولت إلى منظمة دولية مستقلة في عام 2014 وهي تنمو بشكل جيد.

ويعد السؤال عن تحديد الأصول والتقاليد التي اعتمد عليها القرآن تاريخيًا هو السؤال المركزي الذي اعتنى به المستشرقون، وتحديد هذه الأصول والتقاليد التي اعتمد عليها القرآن هو سؤالهم الكبير واختلفت إجاباتهم عليه ولا يزال نفس السؤال حاضرًا إلى اليوم بشكل مباشر أو غير مباشر في معظم الدراسات الاستشراقية. وقد تنوعت المنهجيات في مقاربة هذا السؤال وأيضا اختلفت الأساليب والفرضيات والموضوعات التي تناولها المهتمون بالدراسات القرآنية حديثا وأصبح لها تخصصات فرعية كثيرة في الجامعات الغربية.

 المناهج الرئيسية التي يرجع لها الدرس الغربي للقرآن وعلومه

 من خلال معرفة المناهج الرئيسية وفهمها نستطيع أن نقول إننا أخذنا اطلالة معمقة على الدراسات القرآنية في الغرب وتخول لدينا انطباع لما يكتبه الغربيون والمستشرقون عن القرآن وعلومه. وفائدة الحديث عن الدراسات الغربية عن القرآن وعلومه من خلال المناهج الكبرى لهذه الدراسات من وجهة نظري تتمثل في:  أن مجال الاستشراق والدراسات الغربية عن القران الكريم وعلومه يعتبر من المجالات التي تعاني إشكالا في عملية عرضها وتقديمها من حيث أنها نسق معرفي له مشاغله وله مناهجه وله طرائقه في المعالجة، لذا يتم تقسيم الاستشراق لدينا إلى مدارس، فهناك استشراق فرنسي وألماني وإنجليزي وهكذا. وقد امتلأت الساحة بهذه الكتابات على هذا النسق وهو الأمر الذي يمنع من رؤية المجال بشكل كلي من حيث اشتغاله على القضايا وفهم تطورات هذا الاشتغال ومنعطفاته الرئيسية.

والقرآن الكريم يمثل عصبا مركزيا في الدراسات القرآنية في الغرب كما هو الحال عندنا، فحضارتنا كلها بنيت على القرآن الكريم وركز على المناهج من خلال تعاملها مع القرآن نفسه والكتلة الرئيسية في النتاج الغربي تركز على القرآن وإن كان الاستشراق بدأ يدرس علومه كالتفسير وغيره، والناظر في مناهج هذه الدراسات يلاحظ أنها ترجع إلى ثلاث مناهج رئيسية، تتمثل فيما يلي:

  1. المنهج التاريخي النقدي: وهو منهج يرتكز على البحث في المصادر التي تركب منها النص القرآني وحصل بناءه من خلالها من وجهة نظر الغرب. فحينما يكون لدينا نص ما وهناك شكوك في صورته التي بين أيدينا سواء في نسبته إلى مؤلف معين أو في مادته وطبيعة نشأتها ومصادرها فإننا نلجأ للمنهج التاريخي النقدي حتى ندرس هذا النص وعليه نقوم بفحص مصادر النص الذي يحتمل أنه تركب منها وغير ذلك. والاستشراق تحكمه نظرة مركزية عن القران قديمًا وحديثًا حيث لا يُسلِم المنهج الاستشراقي بكونه وحيا سماويا وإنما يعتبرونه كتاب من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، وهنا نحن نبين منطلقاتهم كمنهج في دراسة القران ولا نتكلم عن موقفنا نحن المسلمين؛ حتى نفهم كيف تفكر العقلية الغربية بالأساس وكيف تتعامل مع القران وقضايانا بصفة عامة لأنهم اعتبروا هذا أنسب منهج.
  2. المنهج السانكروني التزامني: ويهتم ببحث النص كما هو بين أيدينا دون وضع مسبقات بأنه مضطرب الأسلوب. وبرز هذا المنهج مع بروز اللسانيات المعاصرة وبعض الكتابات الغربية تخلت عن الانطلاقة في النظر للقرآن أنه مشوش النص وصارت ترى أن فيها مصادرة. وهذه تعتبر دراسات جيدة بالنسبة لنا لأنها ترد على المنهج التاريخي من داخل الاستشراق نفسه وترى أن النص له طريقة نظم خاصة تحتاج لاستكشاف أولًا وفهم دون وضع مسبقات والصدور عنها. من هنا لجأ هؤلاء للمنهج التزامني بشكل كبير لأنهم افترضوا أن النص في صورته الحالية -يعني القرآن الكريم- هو نص أصيل ويجب فهمه ودراسته كما هو ودون نظرات مسبقة. وهذا المنهج منذ الثمانينات الميلادية وأحدث تحول في ساحة الدرس الاستشراقي للقرآن.
  3. المنهج التنقيحي: من المناهج الشهيرة وهو أحدث المناهج الغربية ظهورًا. وهو يرى أن القرآن متأخر عن عصر النبوة وأنه مركب من تقاليد مختلفة ومتعددة لاسيما التراث اليهودي والمسيحي، وقد اتسع هذا الاتجاه مع التنقيحية وترى أن القرآن نص متطور وخضع للتنقيح قبل أن يستقر ويسمونه أيضًا المنهج الجذري وهذا الاتجاه الذي ينزع في بناءه لبناء قصة عن تاريخ الإسلام المبكر وتاريخ القرآن مبنية على إقصاء كل المصادر التاريخية الإسلامية؛ لأنها مصادر غير موثوقة ولا تحمل أي أحقية تاريخية تمكننا من استخدامها في معرفة أي معلومات حول القرآن أو الإسلام المبكر ويعتمدون على النقوش الأثرية والمخطوطات حصرًا. وهذا الاتجاه أثر على ساحة الاستشراق المعاصر التي عرفت على إثره مركزية بعض الإشكالات والقضايا وهو من أكثر الاتجاهات تطورا في الدراسات القرآنية.

بعض النماذج من الجهود الغربية في دراسة القرآن الكريم

الملاحظ أن ثقافة العمل المؤسسي والجماعي في العالم العربي للأسف لا تزال بعيدة كثيرا خاصة في الدراسات القرآنية؛ حتى إن وجدت المؤسسات فالتراتبية الإدارية والمصالح الخاصة لاتزال تفقد روح التعاون في هذه المؤسسات. إضافة إلى ذلك فإن رأس المال لدينا في العالم الإسلامي لا يهتم بتمويل البحث العلمي كما ينبغي في الدراسات القرآنية وإذا اعتنى به تجد أنه قصير الأجل وليس هناك رؤية بعيدة ويوجد استعجال للنتائج فينشغل القائمون على المؤسسات بتعجل الإنجاز على حساب المحتوى في حين أن المشاريع العلمية الحضارية تحتاج تمويل مستقر وبعيد المدى ليضمن قيام مؤسسة مستدامة لإنجاز المشاريع. ونستعرض هنا مشروعين من المشروعات الاستشراقية التي نرى أنها جديرة بالدراسة والاستفادة منها:

  1. المشروع الأول للمستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش وهو من رواد الاتجاه التنقيحي المشهورين وهو صاحب مؤلفات متعددة عن القرآن الكريم.
  2. المشروع الألماني المشهور الموسوعة القرآنية Corpus Coranicum وتعد دراسة المخطوطات جزء أساسي من هذا المشروع وهو إحياء لمشروع قديم بدأه المستشرق (برجشتريسر) ويهدف إلى إنجاز نسخة نقدية من القرآن استنادا إلى المخطوطات والمصادر القديمة والقراءات. وقد مثل بابًا لآفاقٍ جديدة للعمل على المخطوطات. وتديره اليوم المستشرقة الألمانية أنجليكا نويفرت وهو مشروع بحثي ترعاه أكاديمية برلين براندنبورغ للعلوم. ويهدف إلى تحقيق أمرين أساسين في البحث القرآني أولهما توثيق النص القرآني من خلال مخطوطاته ومن خلال نقله الشفهي، وثانيهما تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخي. وهذا المشروع حظي بتمويل امتد حتى 2025م ويشارك فيه 12 باحث ومحقق وهناك أربع مداخل رئيسية للمشروع:
  3. دراسة المخطوطة القرآنية.
  4. المقارنة بين قراءات القرآن.
  5. التعرف على الظروف التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية لعصر نزول القرآن.
  6. الدراسة التاريخية والأدبية للنص القرآني.

وتكمن أهم جوانب الاستفادة من هذه الدراسات الاستشراقية فيما يلي:

  1. التعرف على أهمية تغيير موقفنا اليوم ونظرة الريبة للاستشراق ونظرة الإنكار والرد على المستشرقين والدفاع عن القرآن، ولا شك أن ذلك من منطلق عقيدتنا وهذا شيء حسن ولكن هذه الروح تمنعنا من الاستفادة من الجوانب الإيجابية في الدراسات الاستشراقية والمناهج والطريقة المؤسسية التي يعملون بها، ونحن المسلمون أُمرنا بأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها ونحن أحق الناس بها وهي ضالتنا ونستفيد منها في خدمة القرآن والبحث العلمي وفي طريقة إدارة مؤسساتنا ومراكزنا البحثية بطريقة احترافية ونلاحظ إتاحة الإفادة من مشاريعهم فهي مفتوحة للباحثين بخلاف بعض مشروعاتنا المحتكرة مما أدى إلى ضعف البحث العلمي.
  2. أيضا أهمية مثاقفة الاستشراق، فكلياتنا لا تزال تعاني من فجوة مع الدراسات الغربية والتواصل حولها، لذا نقترح ونرى أنه من المهم في هذا المجال بالإضافة إلى الترجمة المدروسة التي ينبغي أن تسير وفق خطة علمية إدخال مقررات جامعية للدراسات العليا تدرس تاريخ الدراسات الغربية للإسلام والقرآن تطورها حاضرها واتجاهاتها كما هي في سياقاتها ولا يغني ذلك عن المقررات التي تحمل ضمنا خط القطيعة ومنطق معالجة الشبهات والرد على الشبهات.
  3. أيضا هناك دراسات في الغرب إضافة للتركيز على القرآن وما يتعلق به بدأت تتحدث عن التفسير ومدارسه وتاريخ التفسير بشكل مفصل، ويمكن الاستفادة منها.

مركز تفسير للدراسات القرآنية

يعد “مركز تفسير للدراسات القرآنية” مركزًا غير ربحي للبحوث والدراسات متخصِّصٌ في تطوير الدراسات القرآنية، في المجالات العِلْمِيّة والتعليمية والتقنية والإعلامية، وتأسّس عام (1428هـ -2008م) بمدينة الرياض، وهو مركز يُعْنَى بالدراسات القرآنية وتطويرها، وتتكرّس جهوده في خدمة هذا الحقل والارتقاء به على محاور متعدّدة، وأهمها: المحاور العلمية، والتعليمية، والتقنية، والإعلامية. وينطلق المركز في رؤيته من الأهمية الكبرى لمجال الدراسات القرآنية وحاجته للتطوير والتجديد المستمر؛ حتى يظلّ قادرًا على إنجاز مقاصده وأهدافه المعرفية خدمةً للقرآن الكريم والباحثين في علومه بمنهج علمي، وفق منهج أهل السُّنّة والجماعة.

قم بتسجيل الدخول لتتمكن من التعليق دخول